"وين صرنا؟"... مقاربة إنسانية في أوّل إخراج لدرة زروق - المصدر 7

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"وين صرنا؟"... مقاربة إنسانية في أوّل إخراج لدرة زروق - المصدر 7, اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025 10:21 صباحاً

المصدر 7 - من مشهدهِ الأوّل، بظلالِ الأيادي المنعكسة على الجدار، يعدُ فيلم "وين صرنا" بمُشاهدةِ مختلفة، فهو يتتّبع حكاية عائلة فلسطينية اضطرت إلى مغادرةِ غزّة والانتقال إلى القاهرة عقب أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

ويشكّل هذا الوثائقي أول تجربة إخراجية للممثلة التونسية درة زروق، التي لمعَ اسمها في السينما والدراما المصرية عبر أعمال مثل هي فوضى، جنينة الأسماك، ومسلسلي موجة حارة وسجن النسا، لكنّها تختار هذه المرّة الوقوف خلف الكاميرا لتقدّم رؤيةً إنسانية تمنح من خلالها مساحةً لصوت عائلةٍ خسرت كل شيء بسبب الحرب. وقد حقّق الفيلم أصداءً جيّدة وأثار نقاشات حوله في عدّة مهرجانات، آخرها مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي. 

حياة العائلة في مرآةِ التفاصيل
يبدأ فيلم "وين صرنا" بشهاداتٍ ترويها أفراد العائلة الفلسطينية، بدءًا بنادين، الشابة العشرينية، التي تحكي كيف عانت من وضع صحي معّقد أثناء حملها، نُقِلت على إثره إلى القدس بتصريح استثنائي، أتاح لها مغادرةِ القطاعِ المحاصر للمرة الأولى. تلك البقعة الجغرافية الصغيرة التي تقول إنّهم يستكثرونها عليهم ولا يسمحون لهم بالعيش فيها بسلام. تروي نادين عن تفاصيل زيارتها الأولى للقدس والمسجدِ الأقصى، أين ظهرت في فيديوهات من باحةِ المسجد، وهي تتحسّر حين ترى السياح يتجوّلون فيه من كل مكانٍ في العالم، فتفكّر: "لماذا يُسمَحُ للجميع بالدخولِ إلى هنا إلاّ نحن؟!". تعودُ نادين لتقصّ عن الأوقاتِ العصيبة التي عاشتها أثناء القصفِ، رعبها من صوتِ الانفجارات، وتشتّتها وهي لا تدري أيّ الابنتين من التوأم تحمل وتهدّئ، مع الإحساسِ القاتل بالعجز التام عن حمايتهما وشيءٍ من الندمِ على إنجابهما في مكانٍ غير آمنٍ كغزّة. 

 

درة زروق في افتتاح مهرجان وهران للفيلم العربي.

 

تتنوّعُ الشخصياتُ الساردة في هذا الفيلم الوثائقي رغم أنّها تنتمي إلى عائلة واحدة، إذ  نسمعُ شهادات مختلفة وفقاً للعمرِ والجنس والاهتمامات. تشارك طالبةُ الطب "دانا" المشاهدين تفاصيل حياتها اليومية والعادية، ما هو روتيني وطبيعي في حياةِ أيّ منّا، وتعرض آخر فيديو صوّرته لغرفتها وبيتهم الذي سيُهدمُ بعد قليل. وتطلبُ من المشاهدِ أن يتخيّل لو أنّه يُمنحُ خمس دقائق فقط قبل أن يُقصَف بيته، ليحمل منه أكثر ما يهمّه ويغادر فوراً. صوّرت دانا ملابسها المعلّقة التي لن يتسنى لها لا أخذها ولا ارتداءها مجدّداً، ومكتبها التي تدرسُ عليه بجُهد، سريرها، كلّ هذا سيختفي بعد قليلٍ تحتَ الركامِ والأنقاض.  أمّا الطفلة "جود" فتروي قصّتها كتلميذةٍ مجتهدة كانت الأولى في صفّها، وتتذكّر بتأثر أنّ مدرستها قد قصِفت أيضاً ولم تعد موجودة. تبتلعُ غصّتها وهي تخبرنا عن كتبها المدرسية التي تحوّلت إلى وقودٍ للنار، إذ اضطرّت والدتها لحرقها لإعداد أرغفةِ الخبز. كان ذلك المشهد من أكثر المشاهد المؤثرة في فيلم وين صرنا، فليس من السهلِ سماعُ طفلٍ يتألّم لأنّه حرم من حقّه في التعليم، ورأى كتبه تُحرَقُ أمام عينيه، واضطر لتناول رغيفٍ محروق، يكسوهُ رمادُ الحروف.

بهذهِ الرؤية، تجعل درة زروق المشاهدين يتأمّلون الخسارة الفادحة في التفاصيل الصغيرة، فالأخبار التي استمرّت في تغطيةِ عدد الشهداء كأرقام متصاعدة، وكجثثٍ مكدّسة، وأكفانٍ بيضاء، تجاهلت خسارات الأحياء، كخسارةِ الإحساسِ بالأمان، وخسارة البيت والخصوصية والاستقلالية، والخيارات الصغيرة في التعليم والهوايات كالرياضة والرقص والغناء. ركّزت على غزّة ما قبل الحرب، حيث كان للإنسان حياة كاملة عامرة بالتفاصيل، موضحة أن خسارة الأشياء الصغيرة موجعة أيضاً، وإن كانت بعض خسارات أخف من غيرها وتعوّضها أمورٌ أخرى. مع ذلك، تعيد درّة صياغةَ سردية الحرب التي رسّخها الإعلام، وتشكّل الصورة ببساطتها الأولى، بكل ما تحملهُ من حكاياتٍ يومية تذكّر بأنّ الفلسطيني في غزّة هو إنسانٌ كغيرهِ، لا أكثر ولا أقل. 

 

ملصق فيلم “وين صرنا؟“. (IMDb)

ملصق فيلم “وين صرنا؟“. (IMDb)

 

العدسة الشخصية مقابل الإعلامية
يظهرُ قطاعُ غزّة في فيلم وين صرنا كما لم نرهُ على شاشاتِ التلفزيون من قبل، فالأخبارُ التي تعرضُ مشاهد سريعة لمبانٍ تُهدمُ في ثانيةٍ واحدة ثم تنتقلُ مباشرةً لتغطيات خسائر أخرى، لا تعكس المشهدَ كما يحدثُ في الواقع. في هذا العمل، وظّفت المخرجة فيديوهات تلقتها من المقيمين في القطاع، صُوّرت بعدساتِ الهواتف المحمولة، ليبدو القصفُ مختلفاً، كيفَ تقصفُ البناية في لحظةٍ واحدة، ثمّ تتهاوى وتنهار ببطء، مخلّفةً دماراً وغباراً، ولحظات من الصمتِ المرعب، صمتِ النهايات ودهشةِ الحرب، ما ينقلُ المشاهدَ إلى قلب المكان. هذا التوظيف لفيديوهات الهواتف، منحَ الفيلم بعداً آخر من الواقعية والمصداقية، وجعل اللقطات تبدو مختلفة عمّا يُعرض في نشراتِ الأخبار.

"وين صرنا": بين الاحتفاءِ والانتقاد
تقدّمُ درّة عملاً يتناول الواقع الفلسطيني من زاوية مغايرة، بعكس ما هو معتادٌ في أعمالٍ تتعاملُ مع القضيةِ بعين الشفقة ورؤيةٍ انهزامية. إذ تجعل الوثائقي ينقلُ الوقائع بحيادٍ ملحوظ، وبساطة وتلقائية، وتذكرُ أنّ أكثر ما لفتَ انتباهها في هذه العائلة هو ما تتميّزُ بهِ من عزّةِ نفس، مضيفةً أنّ غاية الفيلم لم تكن حشد التعاطف بقدر ما هي رصدٌ لحياتهم ومشاعرهم بدلاً من الخطاباتِ المباشرة.

أمّا الاستقبالُ النقدي للفيلم، فقد تفاوتَ بين من أشاد به ومن لم يقتنع ببساطةِ القصص وتواضعِ الهمومِ. في حين عبّرت الممثلة كندة علوش عن إعجابها بالفيلم، وشكر المخرج الفلسطيني رشيد المشهراوي درّة قائلاً: " فيلم صادق، حسّاس ومهم جداً في هذا التوقيت"، وأشاد المخرج محمد علي النهدي بالعمل واهتمام درة بالتفاصيل والمشاعر بعيداً عن استجداءِ العواطف. وفي حوارٍ لها، مع الإعلامية منى الشاذلي، قالت درّة: "أكثر ما كان يهمني هو آراءُ المشاركين في الفيلم أكثر من آراءِ النقاد لأنّهم استأمنوني على حياتهم وحكاياتهم وذاكرتهم الحيّة. وكل ما تمنيته أن أكون أمينة في نقل تجربتهم".

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق