الطبيعة قبل الإنسان... والإنسان بعد الطبيعة - المصدر 7

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الطبيعة قبل الإنسان... والإنسان بعد الطبيعة - المصدر 7, اليوم الاثنين 17 نوفمبر 2025 01:27 مساءً

المصدر 7 - ريمي الحويك

 

 

الطبيعة ليست أماً بالمعنى الأسطوري، بل هبة من الله وأمانة في يد الإنسان. هي ملك لله وحده، سخرها لخلقه رحمةً لا تسلطاً، وأمرهم أن يعمروها دون أن يفسدوها. فالله هو المالك الحقيقي، والإنسان مجرد ضيف عابر منحه الله حق الانتفاع، لا حق التملك المطلق أو الإفساد.
كل شجرة فيها تنمو باسمه وتسجد لاسمه، وكل نبع يذكره بصمته الجاري، فكيف يجرؤ الإنسان أن يدعي ملكية ما خلق قبل وجوده، وما سيبقى بعد فنائه؟
لم تخلق الطبيعة لتكون ملكاً لأحد، بل لتكون بيتاً مفتوحاً للحياة كلها. لكن الإنسان، مذ عرف النار، أراد أن يكون رب هذا البيت. اقتطع من الأرض مأواه، ومن الماء شرابه، ومن الغابات غذاءه، ثم أقنع نفسه أنه سيد الخليقة لا أحد من أبنائها.

شيئاً فشيئاً، تحولت العلاقة بينه وبين الطبيعة من علاقة انتماء إلى علاقة امتلاك. إذ لم يكتف بأن يزرع ويصطاد، بل راح يفرض على الأرض طرقاً لم تعرفها من قبل، يسمم التربة بالأسمدة الكيماوية، يلقح النبات بما لا يليق بها، يربي الدواجن في ظلام دائم لتؤكل أسرع، ويحقن الماشية بالهرمونات كي تسمن أسرع. ثم يأكل هو ما لوثه بيده، ويستغرب كيف صار جسده هشاً وروحه متعبة.

لقد شوه الإنسان طعامه كما شوه فكره، فصار الغذاء الذي كان سبباً في الحياة، سبباً في المرض. الفاكهة ترش بالبلاستيك اللماع لتبدو جميلةً، والخبز معدل ليدوم أكثر لا ليغذي أكثر، والنحل، الذي كان رسول الطبيعة إلى الأزهار، بدأ يختفي بصمت، كأنه يحتج على عبثنا.

وفي سباقه المحموم نحو الإنتاجية، لم يدمر الإنسان توازن الغذاء فحسب، بل ضرب بعرض الحائط نظام الكون نفسه. حرف مجاري الأنهار لتخدم معامله، وحرق الغابات لتفسح مجالاً لمصانع السم، واختزل البحر في أسماك معلبة، والمواسم في محاصيل بلا طعم ولا رائحة.

لم يعد ينتظر الربيع ليزرع، بل فرض على الطبيعة أن تثمر شتاءً وصيفاً بلا استراحة. وهكذا، استبدل البركة بالوفرة، والحياة بالإنتاج.

لم يكتف الإنسان بأن يكون ابن الأرض، بل بدأ يشق السماوات بأقمار صناعية تراقب كل نبضة على الكوكب، ويشعل شمساً صناعيةً ليختبر ضوءاً لا يعرف الغروب، ويستدر الغيم بمطر اصطناعي كأنه يريد أن يوقع باسمه على الغيوم. يلوث البحار والأنهار ويشيد أنهاراً اصطناعيةً من إسمنت، يبتكر عوالم رقميةً يعيش فيها كما لو أنه خالقها. لكن في كل قفزة تكنولوجية، يبتعد خطوات عن جذره الأول.

التطور بحد ذاته ليس عدواً للطبيعة، بل الطريقة التي انتهجها الإنسان للتطور هي العدو الحقيقي. تحت أسماء براقة تخفي ظلها، التقدم، التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، يعاد تشكيل العالم على حساب توازن الأرض. تتساقط الغابات كأنها أوراق ندم، وتختنق البحار بالبلاستيك، ويستنزف الهواء كما يستنزف الحلم.

لم تصرخ الطبيعة، لكنها بدأت تتكلم بطريقتها، سيول تجتاح مدناً لم تعرف المطر، جليد يذوب في القطب كما لو أنه يذرف الدموع، وغابات تشتعل كقلب لم يحتمل الخيانة. لقد تحولت كوارث الأرض إلى لغة جديدة تخاطب بها الإنسان:
"لقد تجاوزت الحدود، فلتتذكر أنك ضيف لا سيد".

ماذا لو لم تكتف الطبيعة بالتحذير؟
ماذا لو قررت أن تستعيد سيادتها؟
ماذا لو فرضت نظامها الأصلي على كل المخلوقات، وأولهم الإنسان؟
أن تعيد توزيع الأدوار كما كانت قبل أن يخطئ الكائن العاقل في تحديد نفسه؟
تتوقف الشاشات عن الوميض، تصاب الأقمار الصناعية بالعمى، تصمت الشبكات كما لو أن العالم أطفئ بزر واحد. لا إنترنت، لا إشعارات، لا ضوء غير ضوء الشمس، ولا صوت غير هدير الريح والموج. تسكت المصانع، وتطفئ الأضواء، وتعيد الأرض إلى صمتها الأول.
باختصار، ماذا لو استيقظنا يوماً فقلبت الطبيعة الموازين، وشلت فعالية الأقمار الصناعية، وقطعت جذوع العولمة؟
حينها سيكتشف الإنسان أن بقاءه لم يكن مرهوناً بعقله، بل بتواضعه.
سيأكل مما تنبته يداه لا مما تفرزه آلاته. سيشرب من نبع لا من قارورة بلاستيكية. سيعرف أن الجوع ليس عدواً، بل معلماً يعيد إليه الإحساس بالحياة. سيدرك الإنسان أن العبث بتعاقب النهار والليل ضرب من التطفل، وأن دوران الأرض لا يخضع لأهوائه.
سيعلم الإنسان أن الفصول ليست تحت سلطانه وأن واجبه الوحيد هو أن يحفظ للطبيعة توازنها، فهي تعرف مواعيدها دون أن يملي عليها أحد، تدرك موعد المطر كما تعرف ساعة الربيع.

ربما... حين يضع الإنسان يده مجدداً في تراب حقيقي، ويغرس شجرةً لا لبيعها بل لحبها، حين يقلل من استهلاكه كما يقلل الحكيم من كلماته، حين يصغي إلى صوت الريح بدل ضجيج الإعلانات، عندها فقط قد تسامحه الطبيعة، وتفتح له ذراعيها من جديد.
فالطبيعة، رغم كل خيبات أبنائها، ما زالت أماً رحيمةً… تنتظر الطفل الذي ظن نفسه إلهاً، ليخطو نحو الإنسانية التي تبدأ عند عتبة الأم.

رغم تعديات الإنسان، تبقى في تاريخ البشرية لمحات من خير أهداها للأرض وللطبيعة وللإنسان، غير أن هذه الومضات النقية غالباً ما تخنق بنزعات الطمع والعبث، فتذوب إنجازات الخير في ميزان الشر.

إن الأرض لا تواكب أحداً، بل تنتظر بصبر أمومي أن يتعب أولادها من العبث ويعودوا إلى حضنها. فربما لم يفت الأوان بعد... وربما لا خلاص للإنسان إلا حين يتصالح مع تلك الأم، مع رحم الطبيعة، التي كانت قبلنا، وستبقى بعدنا.
فالطبيعة، مهما أوجعتها أفعالنا، لا تزال تصلي من أجلنا وتهبنا من خيراتها...نحن الذين نسينا أن نصلي لها وتمادينا في أذاها.

إن عاد الإنسان إلى حضن الطبيعة، عاد إلى نفسه... وعاد إلى الله.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق