المصدر 7 - يظلّ الإنسان مبهوراً كلّما اكتشف قدرة الهندسة الحديثة على ابتكار حلول غير مألوفة؛ غير أنّ جسر موس في هولندا يذهب أبعد من ذلك، إذ لا يكتفي بتحدّي المنطق البصري، بل يُحوّل عبور الماء إلى تجربة إنسانية غامرة تجعل الزائر يسير بين ضفّتين بينما الماء ينساب فوق رأسه بهدوء كامل. هذا الجسر ليس مجرد ممرّ، بل رؤية هندسية تُعيد تعريف العلاقة بين الطبيعة والإنسان.

تصميم يقطع الماء إلى نصفين

يقع الجسر في مقاطعة برابانت الهولندية، وقد صُمّم بطريقة فريدة تُشبه “شقّ الماء” إلى نصفين، بحيث يعبر المشاة والمارّون عبر ممرّ غائر ينخفض عن مستوى سطح القناة. ورغم أنه يبدو مغموراً في الماء، إلا أن هندسته المحكمة تمنع أي تسرب، ما يجعل العبور خالياً من الخطر رغم قرب الماء من الجانبين.

اعتمد المهندسون على مبدأ الفاصل المائي المنخفض، حيث لا يرتفع الجسر فوق الماء ولا يغطس تحته، بل يشكّل ممراً بعمق مُحسوب يجعل الماء محيطاً بالممر من الجانبين والسطح فقط. هذه الفكرة سمحت بالحفاظ على المشهد الطبيعي للقناة دون تشويه، وفي الوقت نفسه أتاحت تجربة بصرية مذهلة للزوّار.

مواد بناء مصممة للصمود

لم يكن بناء جسر تحت مستوى الماء مهمة بسيطة، لذلك لجأ المصمّمون إلى استخدام أخشاب خاصة مُعالجة بعناية لتقاوم الرطوبة العالية والضغط المائي المستمر. وجرى دعم الجدران الجانبية للجسر بطبقات مقاومة للعوامل البيئية لضمان ثبات الهيكل لسنوات طويلة دون الحاجة إلى صيانة معقدة.

كما تم تصميم نظام تصريف دقيق يمنع تراكم المياه داخل الممر، مما يجعل العبور آمناً حتى أثناء هطول الأمطار الغزيرة أو ارتفاع منسوب المياه في القناة.

جسر يخدم وظيفة مزدوجة

لم يكن الهدف من الجسر جمالياً فقط، بل كان ضرورة هندسية لحل مشكلة كانت تواجه المنطقة. فقد احتاجت السلطات إلى ممر يسمح للمشاة بالعبور دون تعطيل مرور القوارب فوق القناة، ودون الحاجة إلى بناء جسر مرتفع أو نفق عميق. فجاءت الفكرة العبقرية: جسر لا يعلو الماء ولا ينحته، بل يحفر طريقه داخله.

بهذا أصبحت حركة القوارب تسير بانسيابية فوق رأس العابرين، بينما يسير الأشخاص في الأسفل دون الحاجة إلى مصاعد أو سلالم أو منحدرات حادة.

مقصد سياحي عالمي

تحوّل جسر موس سريعاً إلى أحد أشهر المعالم في هولندا، وبدأ يجذب آلاف السياح سنوياً. فالتجربة الفريدة في العبور بين جدران منخفضة بينما الماء على الجانبين تُولّد إحساساً غريباً بالدهشة؛ إحساس يجعلك تشعر وكأنك داخل مشهد سينمائي.

كما أصبح الجسر وجهة محببة للمصورين ومحترفي المناظر الطبيعية، إذ يتيح لهم التقاط صور مدهشة تجمع بين الطبيعة والتصميم الهندسي الحديث.

لماذا يُعد الجسر ابتكاراً هندسياً؟

يُصنّف جسر موس اليوم ضمن أكثر الهياكل الهندسية ابتكاراً في أوروبا لعدة أسباب، من أبرزها:

الحلول غير التقليدية: اعتماد ممرّ غائر بدلاً من جسر مرتفع أو نفق. التناغم مع البيئة: الحفاظ على شكل القناة الطبيعي دون تشويه المشهد. الهندسة المحكمة: استخدام مواد مقاومة للرطوبة تُطيل عمر الجسر. تجربة بصرية فريدة: منح الزائر إحساس السير في ممر مائي مفتوح. تسهيل الحركة المزدوجة: السماح للقوارب والمشاة باستخدام القناة دون تعارض.

رمز على ذكاء الهولنديين في التعامل مع الماء

لطالما اشتهرت هولندا بقدرتها على السيطرة على المياه، سواء عبر السدود أو الجسور أو القنوات، لكن جسر موس يقدم مثالاً جديداً على براعتهم في تطويع الطبيعة بطريقة تحترم البيئة وتُضيف قيمة جمالية ووظيفية في آن واحد.

فهو ليس مجرد جسر، بل رسالة تقول إن الهندسة ليست فقط عملية بناء، بل فنّ في التفكير وابتكار حلول تُحاكي احتياجات الإنسان دون أن تُلحق الضرر بالنظام الطبيعي.