الأثري والروائي حسين عبد البصير لـ"النهار": الأديب يُعيد للنص القديم الحياة والمعنى - المصدر 7

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الأثري والروائي حسين عبد البصير لـ"النهار": الأديب يُعيد للنص القديم الحياة والمعنى - المصدر 7, اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025 11:55 مساءً

المصدر 7 - يعطي افتتاح المتحف المصري الكبير فرصة ذهبية لتجديد اهتمام العالم بأدب مصر القديمة، والذي لطالما ألهم الكثيرين في العصر الحديث، فكتبوا أعمالاً تستحضره، وتستحضر قيم الحضارة الفرعونية ومحطاتها ذات الأثر العميق في ثقافات العالم. وكان ذلك التراث المنقوش على الحجر والمكتوب على ورق البردي، ملهماً كذلك لأعمال بارزة في السينما والمسرح والفن التشكيلي والنحت، اتخذت صفة العالمية.

ويعتبر الأثري المصري حسين عبد البصير أحد أبرز المهتمين بهذا التراث الأدبي القديم وتجلياته الحديثة، بحكم تخصصه الأكاديمي، وعمله الطويل في مجال التنقيب عن الآثار، وهو حالياً مدير متحف الآثار في مكتبة الإسكندرية، وسبق له المشاركة في الإشراف على العمل في المتحف المصري الكبير في بعض مراحل إنشائه، كما أنه يعتبر الصوت الأبرز في الأدب الفرعوني بعد نجيب محفوظ، من خلال الروايات التي كتبها وتدور أحداثها في مصر القديمة: "البحث عن خنوم"، و"الأحمر العجوز"، و"ميريت". وهو حاصل على الماجستير والدكتوراه في الآثار المصرية القديمة وتاريخ وآثار الشرق الأدنى القديم من جامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة الأميركية. وألف كتاب "العيش للأبد: تمثيل الذات في مصر القديمة" مع أهم علماء المصريات في العالم، وله كتاب بعنوان "أسرار الفرعون الذهبي توت عنخ آمون" بالغتين العربية والإنكليزية. وسبق له العمل مشرفاً على المتحف القومي للحضارة المصرية، ومنطقة أهرامات الجيزة. ودرّس في جامعة جونز هوبكنز وجامعة أريزونا الأميركيتين. وحصل على تكريم المعهد الألماني للآثار بالقاهرة، ومُنِح عضويته الدائمة.

حول الأدب الفرعوني كما يعكسه المتحف المصري الكبير، وتجلياته في الأدب الحديث، كان هذا الحوار مع الدكتور حسين عبد البصير:

* بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير، نودّ أن نتعرف منك على ما يحتويه من آثار تظهر براعة قدماء المصريين في الكتابة الأدبية بمختلف أنواعها؟
- إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مشروع ثقافي، بل هو تجسيد لعبقرية المصري القديم في التفكير والكتابة والإبداع. فإلى جانب روعة التماثيل والمقتنيات، تكمن عظمة المتحف في كل ما يحتويه من برديات ونقوش تحمل نصوصاً أدبية وفكرية عميقة، تمثل إرثاً إنسانياً نادراً.

 

قناع توت عنخ آمون في سماء المتحف المصري الكبير. (أ ف ب)

 

في الآثار الخاصة بالأبدية والعالم الآخر، تُعرض برديات كتاب الموتى، التي تعد من أروع ما أبدعته الإنسانية في الكتابة الرمزية والشعر الديني والفلسفي. هذه النصوص لا تصف الموت بقدر ما تتأمل معنى الوجود، وتؤكد أن المصري القديم كان أول من كتب عن الخلود والحياة بعد الموت بلغة الأدب والروح. كما أن التوابيت نفسها وغيرها من الآثار المتعلقة بالعالم الآخر تحمل نصوصاً جنائزية، تصف رحلة الروح في العالم الآخر. هذه النصوص ليست شعائر فحسب، بل هي دراما روحية فلسفية كاملة. ولا تقل عنها أهمية نصوصُ التعاليم مثل بتاح حتب وكاجمني، التي تمثل أقدم ما كتب في الفكر الأخلاقي، وتُظهر المصري القديم في أبهى صوره كإنسان حكيم يسعى إلى العدالة والنظام والحق والرحمة. في المتحف نرى الأدب في الكثير من أشكاله وأجناسه في صورته الأولى منقوشاً على الحجر، أو مكتوباً على البردي، ومنطوقاً بصوت الأبدية.

ولادة جديدة
* كيف تنظر إلى افتتاح المتحف المصري الكبير في هذا السياق الأدبي والحضاري؟
- إن افتتاح المتحف المصري الكبير حدث حضاري وإنساني عالمي. إنه ليس مجرد افتتاح لمبنى أثري ضخم، بل ولادة جديدة لروح مصر القديمة في وعي العالم الحديث. كل قطعة فيه تحكي قصة إنسان عاش، وفكّر، وكتب، وحلم، وكأن المصري القديم يقول لنا اليوم: "لقد بدأتُ الكتابة، فأكملوا أنتم الحكاية". إن المتحف لا يعرض الماضي فحسب، بل يقدّمه كمنبع إبداع متجدد، يدفع الأدباء والفنانين والمفكرين إلى استلهام المعنى الأعمق للحياة والخلود.

ومن هنا أرى أن افتتاح المتحف هو احتفال بالكلمة المصرية الأولى التي صنعت التاريخ، وبالإنسان المصري الذي كتبها منذ آلاف السنين ليبقى إلى الأبد.

* بدأ نجيب محفوظ مشواره بثلاث روايات تتماس مع العصر المصري القديم، وعاد لاحقًا إلى الحقبة نفسها في أعمال أخرى. كيف تقيّم هذه التجربة؟ وهل هناك أعمال عربية أو عالمية أخرى في هذا السياق؟
- نجيب محفوظ كان من بين أول من فتحوا باب العودة إلى الوعي المصري القديم عبر الأدب الحديث، برواياته "عبث الأقدار"، و"رادوبيس"، و"كفاح طيبة"، و"أمام العرش"، و"العائش في الحقيقة". لم يكن هدف أديب نوبل إعادة سرد التاريخ، بل البحث عن جوهر الإنسان المصري عبر العصور. في "عبث الأقدار" يظهر التساؤل عن القدر والحتمية الإلهية، وفي "رادوبيس" نلمس شعرية الحب والجمال والسلطة، أما "كفاح طيبة" فهي ملحمة وطنية تعبّر عن مقاومة المصريين للهكسوس وتوازي رمزياً مقاومة الاحتلال البريطاني في زمن محفوظ.

 

رواية “العائش في الحقيقة“.

رواية “العائش في الحقيقة“.

 

لقد قدّم محفوظ من خلال مصر القديمة إنساناً عالمياً يعيش صراعه الأزلي مع السلطة والقدر والحب والموت، ما جعل هذه الأعمال من أجمل ما كُتب عن مصر القديمة في الأدب العربي. وفي الأدب المصري الحديث، نجد جمال الغيطاني في "متون الأهرام"، و"كتاب التجليات"، قد أبدع تجربة فريدة، أعاد فيها إلى اللغة العربية روح النقوش المصرية القديمة، فكتب نصاً مشحوناً بالإيقاع، فيه امتزجت الميثولوجيا بالتصوف، والتاريخ بالحلم. كما نجد عند بهاء طاهر في روايته "واحة الغروب"، وفي "أنا الملك جئت"، توظيفاً رمزياً للحضارة المصرية القديمة في سرد معاصر يمزج بين الماضي والحاضر.

أما في الأدب العالمي، فالحضارة المصرية كانت مصدر إلهام متواصل لكبار الأدباء، ومنهم أغاثا كريستي في روايتها الشهيرة "الموت يأتي في النهاية"، التي تدور أحداثها في طيبة القديمة، وقدمت فيها رؤية بوليسية ممتعة تمزج الغموض بالجمال المصري القديم، مستلهمة من أجواء زيارتها لمصر برفقة زوجها عالم الآثار.

كما ألهمت مصر القديمة الكاتب الفرنسي كريستيان جاك، الذي كرّس مشروعه الروائي بالكامل لتاريخ مصر القديمة في أعمال عن رمسيس الثاني وغيره، فقدم روايات علمية وشعبية في آن واحد، تُظهر الدقة التاريخية ومتعة السرد. ولم يكن نورمان ميلر بعيدًا عن هذا الأثر؛ إذ رأى في مصر القديمة رمزاً للفكر الديني الأول، وكتب عنها ضمن تأملاته الفلسفية حول الخلود والإنسان. أما العمل الأبرز في هذا السياق فهو بلا شك رواية "سنوحي المصري" للكاتب الفنلندي ميكا فالتاري، التي تُعد من أعظم الروايات التاريخية في القرن العشرين.

كتب فالتاري الرواية في ظل أجواء الحرب العالمية الثانية، فجاءت محملة بتأملات حول الحرب والسلام، والسلطة والضمير الإنساني، حتى بدت الحضارات القديمة مرآة لعصره الحديث. لقد استخدم فالتاري مصر القديمة كاستعارة للإنسانية في لحظات الانكسار والنهوض، فجاءت الرواية تحمل رسالة عالمية عن الإيمان والأمل والبحث عن معنى الحياة. ووُصف الحيثيون فيها كمجتمع عسكري توسعي، في إسقاط رمزي واضح على ألمانيا النازية، ما جعل الرواية تُقرأ في الغرب على مستويين وهما تاريخي وإنساني.

إن سنوحي المصري ليست مجرد رواية عن مصر القديمة، بل عمل إنساني خالد يربط الماضي بالحاضر، والتاريخ بالسياسة والفلسفة.

محاولة فهم الحاضر
* نود أن نتعرف على دوافعك للسير على هذا النهج في عدد من رواياتك؟
- بالنسبة لي، الكتابة عن مصر القديمة ليست عودة إلى الماضي، بل محاولة لفهم الحاضر من خلال أصوله العميقة. أنا أرى أن الإنسان المصري القديم كان يعيش حياة مليئة بالتأمل، وكان على وعي عجيب بالزمان والمصير، وهو ما يجعل الكتابة عنه تجربة فلسفية بامتياز. حين أكتب رواية تستلهم مصر القديمة، لا أريد أن أُعيد رسم المعابد أو الملوك، بل أريد أن أُعيد طرح الأسئلة التي طرحها المصري القديم على الوجود والخلود والعدالة. من هنا تنبع دوافعي وهي أن أُعيد للحضارة المصرية صوتها الإنساني. إن الأدب، برأيي، هو الوسيط الأجمل بين العلم والروح. وإذا كان الأثري يقرأ النص القديم بعين الباحث، فإن الأديب يقرأه بعين القلب، ويُعيد إليه الحياة والمعنى.

 

رواية “البحث عن خنوم“.

رواية “البحث عن خنوم“.

 

* كيف ترى تلقي القارئ اليوم لمثل هذه الأعمال التي تتناول مصر القديمة؟
- القارئ العربي المعاصر بدأ يستعيد اهتمامه بالتاريخ، ولكن من منظور أدبي وجمالي لا أكاديمي. لقد أصبح القارئ يبحث عن الجذور التي تمنحه الإلهام والانتماء، والحضارة المصرية القديمة تقدّم له ذلك ببراعة. من خلال هذه الأعمال، يرى نفسه امتداداً لحضارة عمرها سبعة آلاف عام.

الأدب الذي يستلهم مصر القديمة يلبّي حاجة روحية وثقافية في آنٍ واحد وهي حاجة إلى الهوية، وإلى الجمال، وإلى الدهشة. ومع تطور الوسائط البصرية والتكنولوجية، من السينما إلى الواقع الافتراضي والمتاحف الرقمية، بات هذا النوع من الأدب يجد جمهوره بسهولة، لأنه يدمج الخيال بالتاريخ والمعرفة بالمتعة. القارئ اليوم يريد أن يعيش التجربة لا أن يقرأها فقط، ومصر القديمة تمنحه هذا الانغماس الكامل في الماضي الذي يشبه المستقبل.

نصوص تنتظر الترجمة
* هل لا تزال هناك نصوص مصرية قديمة ذات صبغة أدبية أو فكرية لم تترجم بعد سواء إلى العربية أو غيرها من لغات العالم؟
- بالفعل، ما زال هناك كنز من النصوص المصرية القديمة لم يُكتشف أو يُترجم بعد ترجمة أدبية تليق به. فهناك نصوص محفوظة في المتاحف الأوروبية والأمريكية، مثل بردية خوفو والسحرة، وقصة الملاح الغريق، وحوار الإنسان مع روحه، وغيرها، لم تُقدَّم إلى الآن في شكل أدبي عربي معاصر.

بعض الترجمات القديمة كان جافاً وأكاديمياً، بينما نحن بحاجة إلى ترجمات تُعيد إلى هذه النصوص روحها الشعرية والفلسفية. كما أن كثيراً من النصوص الأخلاقية والسياسية المصرية القديمة تستحق أن تُقرأ اليوم، لأنها تطرح أسئلة حول العدالة، والسلطة، وحقوق الإنسان، وهي قضايا ما تزال حاضرة في وجداننا. أعتقد أن التعاون بين علماء المصريات والأدباء والمترجمين يمكن أن يفتح باباً لتجديد الثقافة العربية، عبر العودة إلى الجذور الحقيقية للأدب الإنساني التي تكمن في الأدب المصري القديم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق