نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
فلسطين.. نافذة الضوء للإنسانية - المصدر 7, اليوم الاثنين 17 نوفمبر 2025 05:24 صباحاً
المصدر 7 - كنتُ في زيارةٍ لجنوب إسبانيا هذا الأسبوع، وليس هناك ما يلفت النظر أكثر من حقول الزيتون الممتدة حتى الأفق، سوى تلك الرايات الفلسطينية التي تخفق في الريح، والمعلَّقة على الشرفات، وانتشار عبارة "الحرية لفلسطين".
وإسبانيا ليست استثناءً في هذا المدّ الشعبي العارم المؤيِّد لفلسطين. فالعالم خلال العامين الأخيرين لا يزال يغلي تحت موجة "تسونامي" من الوعي تجتاح العواصم والساحات، من التظاهرات التي تفيض بالبشر والضمائر، إلى انتخابات عمدة نيويورك، التي أعادت إلى الأذهان غضب طلاب الجامعات الأميركية.
وتعيد هذه المشاهد التفكير في حالة الخلل في النظام الدولي ككل، فكل ذلك مشهدٌ مترابط، وليس مجرد حالات جزئية منعزلة.
إنّ تلك الانتخابات تعكس في الحقيقة التحوّل الكبير الذي عرفه الرأي العام الغربي عموماً، والأميركي خصوصاً، وفوز زهران ممداني يعبّر عن الفجوة بين السردية الغربية الإعلامية والواقع الحقيقي للرأي العام الأميركي.
ورغم ما تبدو عليه واقعة انتخابات عمدةٍ في مدينةٍ أميركية بعيدةٍ عن مشهدنا، وعن كونها شأناً داخلياً، إلا أن أجندة الصراع هناك بُنيت – في كثير منها – على مقاس المواقف من هذا الشرق الملتهب.
فأبرز ملامح خطاب الانتخابات لإدارة مدينةٍ بحجم نيويورك ذات موازنة تفوق 116 مليار دولار، وتضم أكثر من 300 ألف موظف، كان في جوهره بشكل أو بآخر يدور ضمن دائرة الحرية لفلسطين.
وكأن العالم اليوم يفيق يوماً بعد آخر، رافضاً منطق الذلّ الذي تحاول آلة الاستبداد الصهيوني فرضه واقعاً على البشر جميعاً، لا على العرب وحدهم.
والجماهير التي تملأ الميادين وتهتف "الحرية لفلسطين" لا تنادي بفلسطين فقط، بل ترفض سقوط المعنى الإنساني، وتعلن أن العدالة لا وطن لها. فقضية فلسطين لم تعد جغرافيا، بل اختبار للضمير البشري بأسره.
ولا نزال نتذكر مشهد انسحاب معظم ممثلي دول العالم من قاعة الأمم المتحدة أثناء خطاب نتنياهو؛ فقد كانت لحظةً فارقةً، انكشفت فيها عزلة الكيان الصهيوني، وتجلّى وجه العالم وهو يستعيد شيئاً من ضميره الغائب.
كما جاء مؤتمر شرم الشيخ سداً لوقف فكرة التهجير على الأقل.
إن غضب الناس يعيد بوصلة الضمير الجمعي للشعوب إلى حيث يجب أن تكون عليه الأمور.
ولم يتوحّد العالم على شعارٍ كما توحّد على "الحرية لفلسطين". فالتضحيات الفلسطينية أيقظت في شعوب الأرض ضميراً ظلّ نائماً طويلاً، وأعادت للإنسانية معنى كانت قد نسيت مذاقه.
قد يبدو المشهد محبطاً في موازين القوة، فنتنياهو يردّد أنّ وقوف 180 دولةٍ مع فلسطين لا يعني شيئاً ما دام يقف إلى جانبه سيدُ البيت الأبيض وحيداً، مالكُ القوة في عالمٍ اختلّت فيه القيم.
لكن ذلك وهمٌ، فالعزلة قاتلة، ووصمة الدم لا تُمحى بسهولة، والكيان الذي يحيا على الخوف لا يمكنه أن ينتصر على الحياة أو يصنع السلام.
ولن تنكسر عنصرية الكيان إلا حين ينكسر خطاب الكراهية الديني في داخله، ذلك الخطاب الذي يرى في إحراق العالم خلاصاً مقدساً.
ولن تنطفئ النار ما لم يُكسر هذا التطرّف المتجذّر في عقول الساسة الغربيين قبل الإسرائيليين، أولئك الذين يخلطون الدين بالسياسة.
ومع ذلك، فإن الأمل يولد من رحم الرماد، كما يقول الشعراء .
فهذا التحوّل العالمي المذهل في الوعي الشعبي يجعل من شعار "الحرية لفلسطين" نداءً كونيّاً يعني: "الحرية للعالم".
وقراءة نجاح شابٍّ مسلم مثل عمدة نيويورك تُفهم من هذه الزاوية، فقد حرّر جزءاً كبيراً من المجتمع المدني في نيويورك من خطاب الهيمنة العنصرية الصهيونية، ليعيدهم إلى دائرة اهتمامهم الوطني عبر بوابة عدالة القضية الفلسطينية.
فالعالم الذي يخرج غاضباً ضد حرب الإبادة في غزة، إنما يواجه آخر قلاع العنصرية في عصرنا، ويقاوم آخر مظاهر الظلام في تاريخٍ ظنّ أنه تجاوزها.
وحين تتلاقى القبضات الخاوية للناشطين مع دموع الأمهات في غزة، وحين يهتف الشباب في مدريد وباريس ولندن "الحرية لفلسطين"، ويصوّت الناس في صناديق الاقتراع ضد التطرّف والعنصرية في أميركا، تصبح فلسطين مرآةً تختبر بها الإنسانية نفسها:
إمّا أن تكون وفيّةً لقيم العدل والحرية، أو تغرق في ظلام الهيمنة والعنصرية.
ومع انقشاع دخان الحرب الآن ولو قليلاً، سيقف العالم – وقد بدأ فعلاً يلمس ذلك – أمام امتحانٍ آخر: كيف يُعاد إعمار غزة؟
ليس بمعاولٍ من إسمنتٍ وحديد، ومجالس شركات المقاولات، بل بأذرع الإنسانية التي عليها أن تعيد إعمار الإنسان قبل الحجر.
فغزة التي تهدّمت بيوتها ما زالت تنبض بأطفالٍ يرسمون الشمس على الجدران المهدّمة.
وإعمارها الحقيقي يبدأ حين يُعاد ترميم الأرواح، وتُستعاد الثقة بالعدالة، والإيمان بأنّ الحياة قادرةٌ على أن تنهض من بين الركام.
فقدرُ فلسطين أن توقظ في العالم روحَ الحرية، وأن تبقى – رغم الجروح – نافذةَ الضوء للإنسانية.














0 تعليق