التأمّل التجاوزي… عبورٌ من ضجيج العقل إلى صفاءِ الوعي - المصدر 7

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
التأمّل التجاوزي… عبورٌ من ضجيج العقل إلى صفاءِ الوعي - المصدر 7, اليوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 11:41 صباحاً

المصدر 7 - د. نضال العنداري

 

 

في عالمٍ يتسارع إيقاعه حتى يكاد أن يبتلع الإنسان في دوامة العمل والأخبار والضغوط اليومية، ينهض التأمّل التجاوزيّ كفنّ روحيّ يردّ المرء إلى نقطة اتزانه الأولى؛ إلى تلك المساحة الداخلية التي لا يزاحمها صخب، ولا يلوّثها إرهاق، بل تظلّ كنبعٍ صافٍ لم ينقطع عن الجريان قطّ، مهما ثقلت الحياة حوله. وليس التأمّل التجاوزي طريقة للهرب من الواقع، بل هو أسلوبٌ في العيش يجعل الواقع أكثر شفافية، وأكثر اتزاناً، وأكثر قابلية للفهم والاحتواء.
ينطلق هذا النوع من التأمّل من مبدأ بسيط وعميق في آن واحد: أنّ العقل البشري حين يُمنح إذناً بالسكوت، يبدأ بإعادة اكتشاف طبيعته الأصلية. فالإنسان لا يولد بعقلٍ مشتّت؛ إنما يتشتّت لاحقاً حين تتكاثر عليه المؤثرات الخارجية، وحين تتشابك داخله رغبات لا تنتهي. هنا يأتي التأمّل التجاوزي ليقود الوعي في رحلة نزول هادئ من سطح التفكير نحو الأعماق، حيث لا شيء مطلوباً سوى "الحضور"، وحيث يتلاشى الوزن الثقيل للأفكار، وتبقى الروح على طبيعتها.

لا يعتمد التأمّل التجاوزي على جهدٍ قسري، ولا على محاولة محاربة الأفكار أو طردها، بل يقوم على ترديد داخليّ لطيف لـ"مانترا" خاصة، تُستخدم جسراً بين العقل الواعي والعقل الأعمق. ومع استمرار الترديد، يدخل الإنسان في حالة من الاسترخاء العميق الذي تخفّ فيه موجات الدماغ، فيتحوّل الوعي من حالة التفكير إلى حالة الشهود، ومن الانشغال المرهق إلى السكون العميق. إنّ الأمر يشبه انتقال الضوء من الانكسار إلى الشفافية؛ إذ يتخلّى العقل عن صلابته، ليصبح أكثر نعومة، وأكثر انسياباً.
حين يمارس الإنسان بانتظام التأمّل التجاوزي، يبدأ باكتشاف أنّ السلام ليس مجرد شعور جميل، بل هو حالة داخلية لها أثر مباشر على الحياة العملية. الضغط النفسي يقلّ، الطاقة الذهنية ترتفع، والقدرة على اتخاذ القرارات تتعزّز. وعلى مستوى أعمق، يشعر المرء أنّ شيئاً في داخله قد عاد إلى مكانه الصحيح؛ كأنّ الروح كانت في منفى طويل فوجدت طريق الرجوع.
ولعلّ أجمل ما في التأمّل التجاوزي أنه يُعيد الإنسان إلى ذاته من دون أن يفرض عليه عقيدة أو فلسفة. لا يطالبه بأن يصبح شخصاً آخر، ولا بأن يتخلّى عن معتقداته، بل فقط بأن يمنح نفسه فرصة للإنصات إلى صوته الداخلي. إنه أشبه برحلة إلى "الداخل"، لا تحتاج إلى حقائب أو خرائط، بل إلى نية صادقة وبضع دقائق من الهدوء. ومع الأيام، يتحوّل هذا الهدوء إلى طاقة نور تُضيء التعاملات والمواقف والعلاقات.
إنّ التأمّل التجاوزي ليس رفاهية عصرٍ يبحث عن بدائل من الضغط؛ بل هو عودة إلى الفطرة، إلى تلك النقطة التي عرف فيها الإنسان أنّ السلام ينبع من الداخل، وأنّ السعادة ليست حدثاً خارجياً بل حالة حضور. وفي عالم تتآكل فيه إنسانية المرء تحت وطأة السرعة، يصبح هذا النوع من التأمّل ضرورة للحفاظ على التوازن، وعلى القدرة الحقيقية للعيش بوعي.
ومع التعمّق في هذا الفنّ الهادئ، يتبيّن للإنسان أنّ التأمّل التجاوزي ليس تمريناً ذهنياً فحسب، بل تربية جديدة للعلاقة بين العقل والذات. فالعقل الذي اعتاد الركض خلف التفاصيل الصغيرة، يبدأ شيئاً فشيئاً بالتخلّي عن عادته في مطاردة كل خاطرة، ليصبح أكثر قدرة على الانتقاء، وأكثر حساسية لما يستحق التنبه، وما يمكن تركه يمرّ بلا ضجيج. وهنا تتبدّل نوعية الوعي؛ فبدل أن يضطرب مع كل موجة، يغدو أكثر قدرة على الثبات، كبحرٍ يعرف أن العواصف تمرّ، لكن العمق لا يتغيّر.
ثمّ تظهر فوائد أخرى لا يلتفت إليها كثيرون، وهي إعادة ترميم العلاقة بين الجسد والروح. ففي لحظات السكون التي يمنحها التأمّل، يتخفّف الجسد من توتّرات يومية لم يكن الإنسان يلاحظ تراكمها، فتستعيد العضلات ارتخاءها الطبيعي، ويتحسّن التنفّس، وينتظم إيقاع القلب. وكأنّ الوعي حين يهدأ، يخبر الجسد أن بإمكانه أن يعود إلى حالته الأصلية، وأن يتوقّف عن الاستنفار الذي يفرضه نمط الحياة المعاصرة. وهكذا يصبح التأمّل التجاوزي علاجاً صامتاً يعيد للجسد طمأنينته من دون ضوضاء وأدوية.
ومع مرور الوقت، يبدأ المتأمّل يشعر بأنّ مساحة الإدراك قد اتّسعت؛ لم تعد الحياة سلسلة من ردود الفعل المتسرّعة، بل تحوّلت إلى رؤية أشدّ وضوحاً، وأكثر رحابة. فالإنسان حين يهدأ في داخله، يصبح قادراً على استيعاب الآخرين، وفهم دوافعهم، والتعامل مع مواقفهم من دون حساسية مفرطة. إنه يكتشف تدريجاً أنّ كثيراً مما كان يزعجه لم يكن في الحقيقة مشكلة خارجية، بل صدى لاضطراب داخلي لم يكن قد عالجه بعد. وهكذا يتحوّل التأمّل من ممارسة فردية إلى نور يسري في العلاقات، فيخفّف التشنّج ويُنمّي اللين.
ومن اللطيف أيضاً أنّ هذا النوع من التأمّل يساعد الإنسان على مواجهة ذاته بصدق. فحين يصمت العقل، تتكشّف الأصوات الحقيقية الكامنة في الداخل؛ تلك التي تتحدّث عن مخاوف قديمة، أو رغبات مؤجلة، أو جروح لم تُعالج بعد. عندها لا يعود التأمّل مجرّد لحظة هدوء، بل يصبح مرآةً تعكس للمرء ما يحتاج إليه كي ينمو. وما إن يتعوّد الإنسان على رؤية ذاته من دون محاكمة، حتى يدرك أنّ السلام الحقيقي يولد من المصالحة مع ما في داخله، لا من تجاهله.
كما يُساهم التأمّل التجاوزي في تعميق القدرة على الإبداع؛ فحين ينساب العقل في حالة من السكون الداخلي، تتفتّح مناطق كانت محجوبة تحت طبقات الانشغال. عندئذٍ تبرز الأفكار أكثر صفاءً، وتظهر الروابط بين المفاهيم بوضوح أكبر، ويتحرّر الخيال من قيود التفكير
الصاخب. ولذلك يجد كثيرون من المبدعين والكتّاب والمفكّرين في التأمّل باباً يفتح لهم آفاقاً جديدة في الإلهام والتجديد.
وهناك بعد آخر لا يقلّ أهمية، وهو أنّ التأمّل التجاوزي يعيد الإنسان إلى الإيقاع الطبيعي للحياة؛ فيتعلّم أن يتقدّم بوعي، وأن يتوقّف حين يحتاج جسده أو روحه إلى التوقّف، وأن يصغي إلى داخله قبل أن تلجئه الضغوط إلى القرارات. وهكذا ينشأ لديه نوع من الحكمة العملية التي تجمع بين الهدوء والفعل، وبين البصيرة والعمل.
وفي محصّلة هذا كلّه، يصبح التأمّل التجاوزي ممارسة تحفظ للإنسان إنسانيته في عالم تتنازع فيه الطاقات وتتشتّت فيه الأرواح. إنه فعل بسيط قد لا يستغرق أكثر من دقائق يومية، ولكنه قادر على إعادة تشكيل الطريقة التي يرى بها الإنسان نفسه، وحياته، وما حوله. وكلما ازداد عمق التجربة، اكتشف المرء أن الداخل ليس مكاناً فارغاً، بل كون واسع يزخر بالمعاني، ينتظر فقط أن يُفتح له الباب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق