السودان بين مشروع "الإخوان" وحرب السرديّات الرقمية - المصدر 7

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
السودان بين مشروع "الإخوان" وحرب السرديّات الرقمية - المصدر 7, اليوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 04:58 صباحاً

المصدر 7 - لم يسقط السودان في جحيمه الحالي بين ليلة وضحاها، ولم تُختزل مأساته في الفاشر أو في مقطع فيديو مفبرك يهزّ الرأي العام لساعات ثم يختفي. ما نراه اليوم هو حصيلة تاريخ طويل من العنف المنظم، تتقاطع فيه أيديولوجيا "الإخوان المسلمين" مع عسكرة الدولة، وتتضاعف آثاره في زمن السرديات الرقمية.

 

منذ استقلال السودان عام 1956، تكاد الحرب تكون اللغة السياسية الأكثر حضوراً في تاريخ الدولة. حروب الجنوب، فدارفور، ثم انفصال الجنوب، وصولاً إلى حرب الجنرالات بين الجيش والدعم السريع منذ نيسان/أبريل 2023. لكن لحظة عام 1989 كانت نقطة الانقلاب الحقيقية، حين تحالف الإسلاميون مع ضباط الجيش، وفتحوا الباب أمام عقود من الإبادة المنظمة تحت لافتة الشريعة والجهاد. في تلك اللحظة لم يعد الجيش مؤسسة وطنية محايدة، بل تحوّل إلى ذراع تنظيم عقائدي، يدمج بين السلاح وخطاب التكفير، ويعيد تعريف المواطن وفق معيار الولاء لا وفق معيار الحقوق.

 

حرب دارفور منذ 2003 نموذج مكثف لطبيعة هذا المشروع. التجنيد المنظم للجماعات المسلحة لم يكن خروجاً على الدولة بل كان صُنعاً في قلبها، ومفتاحاً لفهم بنية السلطة في السودان. مصنع واحد ينتج جيوشاً متنافسة، يتبادل فيها "الإخوان" الأقنعة بين جيش وطني وقوة شبه عسكرية، بينما يبقى المواطن وقوداً ثابتاً لمعارك متغيرة.
اليوم تحوّلت الفاشر إلى عنوان مكثف لهذه الحقيقة.

 

نعم، وقعت انتهاكات مروّعة تستحق الإدانة والمساءلة، لكن ما صاحبها من حملة رقمية منظمة كشف وجهاً آخر للحرب. مقاطع فيديو مفبركة، صور مولّدة بالذكاء الاصطناعي، مشاهد لدماء مزعومة التقطتها الأقمار الاصطناعية، ليتبيّن لاحقاً – عبر تحقيقات مؤسسات إعلامية دولية – أن جزءاً منها مزوّر أو قديم أو منقول من ساحات أخرى.

 

لم يعد السودان ضحيّة السلاح فقط، بل ضحية هرمية رقمية للتعاطف تحدّدها خوارزميات المنصّات، وتستثمرها غرف دعاية أيديولوجية تريد تحويل كل حقيقة إلى مادة للتعبئة والتحريض. جوهر هذه الحملات ليس حماية المدنيين، بل إعادة كتابة الرواية، في تجاهل أن طرفي الحرب خرجا من بنية عقائدية وعسكرية واحدة، وأن كليهما شارك في انقلاب 2021 على المسار المدني. والأخطر أن تضخيم مشاهد الفظائع يخدم معسكراً داخل الجيش وحوله من الإسلاميين، يريد قتل أيّ فرصة للهدنة الإنسانية أو المخرج السياسي، تحت شعار التعبئة العامة ولا هدنة ولا تفاوض.

 

وتفتح مبادرة "الرباعية الدولية" نافذة نادرة في جدار الحرب السميك. وافق الدعم السريع على الهدنة، بينما ظلّ موقف الجيش ملتبساً، بين بيانات رسمية تتحدث عن "الحرص على السيادة"، وأجنحة متشددة تهاجم الرباعية وتلوّح باستكمال الحسم العسكري.

 

وفي خلفية المشهد، يحاول خطاب "الإخوان" وأنصارهم تصدير الأزمة إلى الخارج. وكأن السودان كان جنّة مستقرة، أو كأن الحروب التي بدأت منذ عقود لم يكن لها جذور داخلية في بنية السلطة والاقتصاد والهوية.

 

الهروب من المسؤولية ليس جديداً؛ إنه جزء من آلية دفاعية ثابتة لدى الجماعات الأيديولوجية التي لا تعترف بخطيئتها، بل تبحث عن عدو خارجي لتبرير كل شيء. من دارفور إلى الفاشر، ومن الانقلاب على الحكومة المدنية إلى رفض الهدنة الإنسانية.
السؤال الحاسم اليوم ليس من انتصر في الفاشر؟ بل هل يريد السودانيون استمرار دولة تُدار بعقلية التمكين والحرب بالوكالة، أم يريدون الخروج من دائرة "الإخوان" والعسكر معاً؟ فلا حلّ عسكرياً لهذه الحرب، لا لصالح الجيش ولا لصالح الدعم السريع. وكل يوم إضافي من الحرب يعني مزيداً من الضحايا، والانهيار الاقتصادي، وتمزيق النسيج الاجتماعي إلى حدّ يهدّد بتشظي السودان إلى كيانات متناحرة.

 

ما يحتاج إليه السودان اليوم ليس مزيداً من المقاطع المفبركة، ولا خطابات مضللة ضد هذه الدولة أو تلك، بل شجاعة مواجهة الذات. تفكيك مشروع "الإخوان" داخل الجيش والدولة، وقبول انتقال مدني حقيقي، ووقف تحويل المأساة إلى محتوى دعائي. عندها فقط، يمكن للفاشر أن تصبح بداية نهاية الحرب، لا مجرد فصل جديد في كتاب طويل من الدم، يكتبه السلاح وتوقّعه غرف الدعاية، بينما يبقى الشعب السوداني وحده من يدفع الثمن.

 

* كاتب إماراتي

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق